ميلادٌ يُنادي العالم… من فلسطين إلى السماء

بقلم: المهندس غسان جابر
مع اقتراب موسم الميلاد، تعود الأرض المقدسة لتتنفّس نورًا يشبه المعجزات. فهذه البلاد، التي أثقلتها الحروب وامتلأت شوارعها بصدى الوجع، تستعد اليوم لأن تفتح أبوابها من جديد للحجاج والزوار من مختلف بقاع العالم.
في القدس وبيت لحم والناصرة، تُقرَع الأجراس لتقول إن هذه الأرض، رغم كل ما مرّ عليها، لا تزال تنبض بالحياة، ولا تزال رسالتها الروحية أكثر قوة من كل ما حاول أن يطفئها.
صوت من فوق الغيوم… “لا تنسوا غزة”
وفي خضم هذا المشهد، يمرّ في الوجدان صوتٌ طفولي صافٍ، كنسمة تأتي من مكان بعيد؛ صوت الطفلة هند رجب، لا كحكاية ألم، بل كرمز للبراءة وصدق الرسالة.
أتخيّلها، من فضاءٍ رحيم لا يسمع هدير حرب، تنظر إلى الوطن وتقول:
“اجعلوا الميلاد ميلاد عدالة… ميلاد محبة… ميلاد وحدة.
لا تتركوا غزة وحدها، ولا تتركوا فلسطين وحيدة.”
كأنها تُذكّر العالم بأن الفرح الحقيقي لا يكتمل بينما شعب يُحاصر، وأن نور الميلاد يجب أن يصل إلى كل طفل فلسطيني ينتظر غدًا أفضل.
نداء الأرض المقدسة للعالم
حين وجّه المطران عطا الله حنا دعوته للحجاج والزائرين للقدوم إلى فلسطين، لم يكن يخاطب السائح العابر، بل الإنسان الباحث عن معنى.
كان يقول للعالم:
تعالوا، فمجيئكم ليس زيارة سياحية بل وقوفٌ أخلاقي وروحي مع شعب يريد الحياة.
إن الفنادق التي تعود لفتح أبوابها، والمطاعم والمحال التي تستعيد أنفاسها بعد شهور طويلة من الإغلاق، ليست مجرد منشآت، بل جزء من روح مدينة أنهكها الألم وتنتظر أن تستعيد عافيتها.
زيارة كنيسة المهد في بيت لحم، وكنيسة القيامة في القدس، وكنيسة البشارة في الناصرة، ليست زيارة لحجارة بل لرسالة ممتدة عبر الزمن؛ رسالة تؤكد أن هذه الأرض هي مهد الإيمان وملتقى الروح.
ميلاد الوحدة… الميلاد الذي نحتاجه
في هذا الموسم، نرفع دعاءً صادقًا ليكون الميلاد ميلادًا جديدًا لنا نحن أيضًا:
ميلاد للوحدة وإنهاء للانقسام.
فلا معنى لاحتفالات تُضاء شوارعها بينما قلوبنا متباعدة، ولا قيمة لفرح جماعي ما دام الجرح بيننا مفتوحًا.
اللهم…
اجعل هذا الميلاد بدايةً لوحدةٍ تتجاوز خلافات السنين.
اللهم…
اجعل من هذه المناسبة بابًا تُطوى فيه صفحات الفرقة، وتُفتح فيه أبواب الأخوّة.
اللهم…
اجعل ميلاد هذا العام ميلادًا لفلسطين أقوى وأجمل.
غزة… حاضرة في كل صلاة ميلاد
غزة، رغم ما مرّ عليها من معاناة، تبقى في قلب كل مشهد ميلادي.
هي في كل شمعة تُضاء، وفي كل صلاة تُرفع، وفي كل طفل يقف أمام شجرة الميلاد ويتساءل:
“متى نعيش بلا خوف؟”
إن دعوتنا اليوم للعالم لزيارة فلسطين، هي أيضًا دعوة لفهم غزة؛ للوقوف معها ومع أهلها الذين يرفعون عيونهم نحو مستقبل يستحقون أن يعيشوه بسلام وكرامة.
الميلاد… مقاومة من نوع آخر
في فلسطين، حتى الفرح يصبح مقاومة.
أن تضيء بيت لحم شوارعها هو إعلان بحد ذاته.
أن تُقرع الأجراس في القدس هو رسالة بأن هذه المدينة، رغم القيود، ما زالت مدينة السلام.
وأن يأتي الحجاج من كل مكان هو تعبير عن أن العالم لم يتخلّ عن هذه الأرض، وأن رسالتها الروحية لا تزال أقوى من كل محاولات طمسها.
ميلاد الرسالة والنور
نقول: في ختام هذا الموسم الذين يتجدّد فيه معنى الميلاد، ندرك أنّ فلسطين لا تنتظر مواسم الفرح لتنهض، بل تنهض بالفرح ذاته. إنّ نور المهد لم يُخلق ليبقى محصورًا في مغارة، بل ليكون رسالة مستمرة تُضيء طرق العدالة في عالمٍ يزداد ظلامًا.
نقول للعالم من قلب الأرض المقدسة:
إنّ زيارة هذه البلاد ليست فعل عبادة فحسب، بل موقفٌ سياسي وأخلاقي، وانحيازٌ للحقّ الإنساني في وجه الظلم. هنا، حيث وُلد السلام، يصبح الصمت عن الظلم خيانة لرسالة الميلاد نفسها.
إننا نرجو، ونتضرع، ونتشبث بالأمل، أن يكون هذا العام ميلادًا لفلسطين جديدة… موحّدة… متصالحة مع ذاتها، قوية في وحدتها، مرفوعة الرأس أمام العالم. وأن يكون نور الميلاد هاديًا لحكّام الأرض كي يُحكّموا إنسانيتهم، ويضعوا حدًا لمعاناة الأبرياء، وفي مقدمتهم أهلنا في غزة الذين أصبحوا ضمير العالم في هذا الزمن.
ولْيكن هذا الميلاد شهادة حيّة بأن الشعب الفلسطيني، رغم الألم، لم يفقد قدرته على العطاء، ولا إيمانه بالسلام العادل، ولا تمسّكه بأرضه المقدسة التي تحمل رسالة للبشرية جمعاء.
فلسطين، التي تحمل في ترابها قصة السماء على الأرض، ما زالت تنادي العالم:
تعالوا إلى هنا… إلى الأرض التي لا تعرف إلا أن تظل واقفة، نورًا في وجه العتمة، وإيمانًا في وجه اليأس، وحقًا لا يموت.
م. غسان جابر – قيادي فلسطيني.



