محفوظون بالحبر.. رواية الصمود الفلسطيني التي تهزم النسيان

بقلم نجيب الكمالي، رئيس اللجنة التحضيرية لمبادرة “منير: صحفيون من أجل فلسطين”
القضية الفلسطينية محيط واسع لا يهدأ، تتلاطم على شواطئه أمواج الأمل المتصاعدة، وتتصدع عند صخرة صمودها جزر النسيان والتناسي. إنها رحلة شاقة من المد والجزر، حيث يعلو صوت الحق كلما اشتدت قوة المقاومة، وارتفعت الأصوات المطالبة بالعدالة، وانطلقت المؤتمرات وتليت الخطب، وصدرت القرارات الأممية، فيبدو للحظة وكأن شاطئ العدالة على مقربة من أن يغمر هذا البحر المظلوم.
لكن الأمواج الدولية سرعان ما تتراجع، فتعود إلى الانكفاء خلف حدود المصالح الجيوسياسية الضيقة، فتخفت الأضواء الإعلامية، وتتبدل الأولويات، وتتحول القضية برمتها إلى مجرد رقم في سجلات النزاعات المجمدة التي تنتظر على رفوف التاريخ، بينما يبقى الشعب الفلسطيني بطل هذه الملحمة يعيش واقع المعاناة اليومية الثابتة وسط هذا التقلب الدولي.
في هذا المشهد المعقد تتحرك القوى الكبرى كربانين في عرض البحر: تارة ترفع رايات حقوق الإنسان وتتغنى بمبادئها، وتارة أخرى تنساها بمجرد أن تتعارض مع حساباتها ومصالحها العملية. حتى الحلفاء والأصدقاء يتراجعون أحيانًا، تاركين الشعب الفلسطيني في مواجهة مصيره وتحدياته بمفرده، وكأن المبادئ ليست سوى كلمات تُقال حين يسمح الواقع.
ورغم هذا المد والجزر السياسي، يبقى الفلسطينيون صامدين كالصخر الأصم في وجه أعنف العواصف. وهنا، في خضم هذا الصراع الوجودي، يبرز دور الكاتب والصحفي الفلسطيني ليس كمجرد حبر على ورق، بل كشاهد عيان خالد وذاكرة جماعية حيّة، وحصن منيع يحفظ الهوية ويصون الرواية. الكاتب والصحفي هو الذي يوثق التاريخ ويخزن ذاكرة الشعب، ويحفظ قصة الأجداد والأرض والحياة: من شعر المقاومة الذي يزلزل الوجدان، إلى الأدب الروائي الذي يحكي جراح المدن، وصولًا إلى القصة اليومية البسيطة التي تروي حكاية الصمود في زوايا البيوت وشوارع المخيمات. كل صفحة مكتوبة هي صخرة تضيفها الأيادي المكافحة لبناء سد منيع في وجه المد والجزر الدولي.
لكن الصمود الفلسطيني لا يتجلى في الكاتب والصحفي وحده، بل هو واقع حي ينبض في تفاصيل الحياة اليومية: في عيون الأطفال الذين يواصلون تعليمهم رغم صفارات الإنذار ودوي القصف، وفي همة الشباب الذين يبنون مشاريعهم ومبادراتهم الصغيرة من بين ركام الدمار، وفي عزيمة العائلات التي تحافظ على كرامتها وتماسكها وحقوقها الموروثة. كل هذه الأمثلة الحية تروي فصلاً آخر من فصول الإرادة، وتظهر للعالم قدرة هذا الشعب الأسطوري على الحفاظ على إنسانيته وثقافته وهوية، بينما يظل الكاتب والصحفي مرآة صادقة تعكس هذا الصمود وتخلده للأجيال القادمة.
في هذا المد والجزر المستمر بين ألم الواقع وومضات الأمل، يظل جنين السلام الحقيقي نابضًا في قلب الدراما الفلسطينية. يصر الفلسطينيون على أن الكلمات لا تموت، وأن الحبر هو دماء الأفكار التي لا تجف، وأن الكاتب والصحفي هو السفينة التي تحمل إرثهم وهويتهم عبر الزمن، مهما حاولت أمواج النسيان والمصالح طمره تحت رمال التيه.
القضية الفلسطينية ليست مجرد نزاع سياسي عابر يمكن حشره في أرشيف التاريخ، بل هي اختبار عالمي دائم للضمير الإنساني ومقياس حقيقي للعدالة. وهي، في نهاية المطاف، شهادة مستمرة يرويها الكاتب والصحفي الفلسطيني عن قدرة شعب أعجز العالم بإرادته على البقاء صامدًا، محافظًا على هويته، متمسكًا بثقافته، ومتشبثًا بخيط الأمل حتى في أشد ساعات الليل عتمة.



