مقالات منوعة

المؤتمر الوطني الفلسطيني… إصلاحٌ يُطبَخ على نارٍ خامدة

بقلم : المهندس غسان جابر

لا شيء يُدهِش الفلسطينيين بعد الآن. فمنذ سنوات، تُطرَح مبادرات الإصلاح كما لو أنَّ السياسة الفلسطينية تتحرك فوق خط إنتاجٍ أوتوماتيكي: كل شهر مؤتمر، وكل أسبوع لجنة، وكل يوم بيان. لكن الجديد القديم الذي عاد ليُرجّ أجواء النقاش هو ما يسمى “المؤتمر الوطني الفلسطيني”؛ مبادرة تُقدَّم لنا كأنها الورقة الأخيرة لإنقاذ منظمة التحرير الفلسطينية وإعادة بنائها من الرماد.
ولكن—ولأننا مللنا المجاملات—ثمة سؤال يتدحرج على كل لسان:
هل يمكن لمن يحتاج إلى إصلاح، أن يقود الإصلاح؟

المؤتمر… تعريف جميل بلا جسد

على الورق، يبدو المؤتمر الوطني كأنَّه النسخة الفلسطينية من “مجلس الحكماء”. مجموعة من الوطنيين الغاضبين، ينهضون لإعادة ترميم البيت الكبير، بعد أن تهشَّمت جدرانه وتشققت أسقفه. لكن هذا التعريف الأنيق يكاد ينهار عند أول محاولة للفهم العملي: من هم هؤلاء؟ ومن انتخبهم؟ ومن أعطاهم تفويضًا لترميم مؤسسة بحجم منظمة التحرير؟

المؤتمر في أحسن أحواله هو “تجمّع”، وفي أسوئها هو محاولة لاختراع إطار موازي من خارج الشرعية القائمة.
في الحقيقة، هو خليط غير متجانس من:

سياسيين متقاعدين يرفضون الاعتراف بأن زمنهم انتهى.

شخصيات تبحث عن “لمبة ضوء” تضعها فوق رأسها في ليل السياسة المظلم.

فصائل صغيرة تريد أن توسّع مقاعدها داخل المؤسسة الأم.

ومجموعات تُراهن على أن غبار الانقسام قد أعطى فرصة لكتابة تاريخ جديد بإمضاءٍ غير مألوف.

باختصار: هي تركيبة تتحدث كثيرًا عن الإصلاح… لكنها لا تملك مفاتيحه.

قيادته… مَن يقود مَن؟

أخطر ما في هذا المؤتمر أنه بلا قائد واضح. ليس لأنه يريد ممارسة الديمقراطية، بل لأنه ببساطة لم يتفق على رأس. الصورة تشبه مشهدًا من مسرحية سياسية ساخرة: قاعة مكتظة بالشخصيات، كل منهم يرى نفسه “الأحق” بقيادة مرحلة الإنقاذ، لكن لا أحد قادر على الجلوس فوق الكرسي.

القيادات التي تتصدر المشهد تتمتع بتاريخ وطني محترم، لكن هذا لا يكفي. فالوطنية لا تغني عن الشرعية، والخبرة لا تصنع سلطة تنفيذية، وحسن النوايا لا يبني مؤسسات. وما لم يكن لدى المؤتمر أدوات ضغط حقيقية—شعبية، تنظيمية، أو سياسية—فإنه سيظل مثل آلاف المؤتمرات التي سبقت: ضجيجًا أعلى من قدرته على الحركة.

إصلاح المنظمة… أم الالتفاف عليها؟

منظمة التحرير الفلسطينية ليست مجرد مؤسسة سياسية، بل هي الذاكرة الجماعية للشعب، الإطار الذي وُلدت منه الحركة الوطنية الحديثة.
والمنظمة—برغم ما فيها من قصور حقيقي—تظل الإطار الذي اعترف به العالم، والذي دفع الفلسطينيون دماءهم ليحمي وجوده.

حين يأتي “المؤتمر الوطني” ويتحدث عن إصلاح المنظمة، فإن ذلك يبدو منطقيًا للوهلة الأولى. لكن السؤال الحقيقي ليس ماذا يريد؟ بل كيف يريد؟

فالإصلاح الحقيقي يبدأ من الداخل: من إعادة بناء المجلس الوطني، وإجراء انتخابات شاملة، وتجديد الشرعيات، وإعادة تعريف البرنامج الوطني.
أما الإصلاح من “الخارج”—عبر مؤتمرات ونخب غير منتَخبة—فلا يمكن سوى أن يفتح الباب أمام شبهة البديل الموازي، أو شكل من أشكال “الإحلال الناعم” الذي لا يملك القدرة على العلنية لكنه يملك القدرة على التشويش.

إن من يريد إصلاح المنظمة لا يبدأ بتجميع الأصدقاء في قاعة فندق، بل يبدأ بالدخول إليها عبر بواباتها الشرعية.

هل يملك المؤتمر أدوات الإصلاح؟

هنا تكمن الحقيقة التي لا يحب كثيرون الاعتراف بها:
المؤتمر لا يملك القدرة، ولا الأدوات، ولا النفوذ اللازم لإحداث أي تغيير جذري.
ليس لديه قاعدة جماهيرية قادرة على الضغط.
ليس لديه تمثيل فصائلي حقيقي.
ليس لديه أدوات دستورية أو تنظيمية.
بل وحتى خطابه السياسي لا يتجاوز حدود “الأمنيات”.

الإصلاح في الحالة الفلسطينية ليس مثل تصليح باب مكسور أو تغيير لمبة عاطلة. الإصلاح هو عملية سياسية ضخمة تتطلب:

1. قرارًا سياسيًا من رأس النظام السياسي نفسه.

2. توافقًا بين القوى الأساسية داخل المنظمة.

3. شرعية انتخابية تعيد بناء المؤسسات.

4. قدرة على الاشتباك السياسي مع الاحتلال، ومع الإقليم، ومع التحولات الدولية.

ما يمتلكه المؤتمر اليوم لا يتعدّى القدرة على كتابة البيانات، وعقد الندوات، وإثارة النقاش. وهذه ليست أدوات إصلاح… بل أدوات شغل فراغ.

سؤال قاسٍ… لكنه ضروري

هل يمكن لمن خرج من قلب الأزمة أن يدّعي القدرة على حلها؟
هل يمكن لمن ساهم في صمت السنوات الماضية أن يصبح فجأة فارس التغيير؟
هل يكفي أن نجتمع في قاعة، كي ننادي بإصلاح مؤسسة عمرها ستّون عامًا؟

الإجابة الواضحة: لا.

الإصلاح ليس صرعة موسمية، ولا مشروعًا يلمّع أسماء. الإصلاح يحتاج إلى انقلاب حقيقي على كل ما ولّد الأزمة: على البيروقراطية، وعلى احتكار القرار، وعلى الفصائلية، وعلى تغييب الناس، وعلى تكلس الأطر القيادية.

الحق الصريح الذي لا يقال

الفلسطينيون لا يريدون مؤتمرات جديدة.
ولا يريدون محاضرات عن الوطنية.
ما يريدونه هو شيء واحد فقط:
عودة السياسة إلى الناس… وعودة المنظمة إلى دورها الطبيعي.

وحتى يتحقق ذلك، يجب أن يتم الإصلاح عبر:

انتخابات فلسطينية شاملة تعيد تشكيل المجلس الوطني من جديد.

تجديد القيادة وليس تدوير الوجوه.

برنامج وطني واضح لا يترك المجال للعبث أو الاستبدال.

شراكة كاملة لا تُقصي أحدًا ولا تسمح لأحد بالهيمنة.

أمّا “المؤتمر الوطني”، بالشكل الذي هو عليه اليوم، فهو خطوة ناقصة، صوت أعلى من قدرته، ومشروع يريد إصلاح الجدار من الخارج بينما الشقوق في الداخل.

نقول … بلا رتوش

الإصلاح الحقيقي لا يصنعه من يفتقدون الشرعية، ولا من يهربون من مواجهة المسؤولية. الإصلاح يبدأ حين تقرر القوى الكبرى أن تكف عن احتكار القرار، وحين يعود الشعب ليكون شريكًا لا متفرجًا.

أما المؤتمر الوطني—بكل ما فيه من نوايا طيبة—فلن يكون أكثر من حدث عابر ما لم يتحول إلى حركة حقيقية تنزل إلى الميدان، وتفرض نفسها بالناس لا بالتصريحات.

ففي السياسة، كما قال الحكماء
“البيانات لا تغيّر التاريخ… الرجال يفعلون”.

م. غسان جابر – قيادي فلسطيني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى