مقالات منوعة

الجشع الفلسطيني العظيم… حين تقاسم الإخوة جلد الدب قبل صيده!

بقلم: المهندس غسان جابر

يا سلام على وطنٍ ما زال يبحث عن وطنه بين بيانات الفصائل!
نحن الشعب الوحيد في العالم الذي نجح في تحويل “القضية” إلى شركة قابضة، فيها مجلس إدارة من الأمناء العامين، ومساهمون من أصحاب الشعارات، ومدقّق حسابات اسمه “الاحتلال”، يراجع كل بند ويختم بالموافقة… أو بالمدفع!

كل فصيل عندنا يعتقد أنه نزل من رحم فلسطين مباشرة ومعه مفاتيح الجنة، بينما الآخرون وُلدوا بالخطأ من رحم مؤامرة.
فإذا اجتمعوا، يبدأ الاجتماع بآيةٍ كريمة وينتهي بلعنةٍ عميمة، وبينهما جولات من الخطب والاتهامات والتذكير بالتاريخ المجيد الذي لم نرَ منه إلا الصور بالأبيض والأسود.

الفصائل عندنا لا تتقاتل على السلطة، بل على من يملك الحق في التحدث باسم الشعب الغائب عن الاجتماع.
كلٌّ منهم يريد الكرسي لا ليجلس عليه، بل ليرفعه بوجه خصمه كمن يلوّح بسلاح نووي محليّ الصنع.
أحدهم يحتكر “الوطنية”، والآخر يحتكر “المقاومة”، وثالث يحتكر “المصالحة” حتى باتت حكرًا عليه مثل براءة اختراع لا تعمل!

هل سمعتم عن “جشع روحي”؟ نحن نراه يوميًا!
كل فصيل يتصرّف وكأن الله أوكل إليه إدارة فلسطين حصريًا، فيوزّع صكوك الغفران الوطني على من يشاء، ويحجبها عمّن يشاء، تمامًا كما تحجب إسرائيل تصاريح المرور.

وحين يتحدثون عن “الوحدة الوطنية”، تراهم يبتسمون كما يبتسم لصّان التقيا في محكمةٍ واحدة.
تبدأ البيانات بعبارة “انطلاقًا من حرصنا على المصلحة الوطنية العليا”، وتنتهي بجملة “نحمّل الطرف الآخر كامل المسؤولية”.
أما المصلحة الوطنية نفسها، فتُترك في الممر الخلفي، تنزف بصمت تحت يافطة “سننظر في الأمر لاحقًا”.

الجشع الفصائلي عندنا لا يطلب مالًا ولا جاهًا فحسب، بل يطلب خلودًا في نشرات الأخبار.
كل تصريح سياسي عندنا لا يهدف لحل مشكلة، بل لحجز زاوية في العناوين الرئيسية.
في اليوم الذي تُذكر فيه فلسطين بلا ذكر فصيلٍ معين، يعتبر ذلك اليوم “نكسة إعلامية” ويعقد مؤتمرًا صحفيًا لتصحيح الخطأ الكوني.

تأملوا المشهد جيدًا:
نحن لا نختلف على كيفية مواجهة الاحتلال، بل على من يلتقط الصورة أولًا أمام الركام.
لا نختلف على مبدأ المقاومة، بل على من له الحق في إلقاء الخطاب في ذكرى انطلاقتها.
إنه جشع سياسي من نوعٍ فريد: جشع لا يملأ الجيوب بل يفرّغ القلوب من الانتماء.

ولأننا شعب كريم حتى في مأساته، فقد وزعنا الخيبة بالتساوي:
نصفها للفصائل، ونصفها الآخر نحتفظ به لأنفسنا، نبرّر بها عجزنا ونسميه “صبرًا”.
الناس سئمت من الوجوه التي لا تتغير إلا بعد أن تتقاعد عن الثورة لتتفرغ للصفقات.
صار الحلم الأكبر عند المواطن أن يرى مسؤولًا واحدًا يستقيل لا لأنه خُلع، بل لأنه شعر بالذنب — حلم بحجم معجزة في بلاد المعجزات المقلوبة.

لكن لعلنا نحتاج إلى علاجٍ لهذا الجشع، علاج لا يُباع في الصيدليات السياسية:
نحتاج إلى ثورة أخلاقية قبل أي مصالحة شكلية،
إلى جيلٍ جديدٍ يملك الشجاعة ليقول “كفى” لمن يرفع علمه أعلى من وطنه،
إلى رجالٍ ونساءٍ يفهمون أن القيادة تكليف وليست غنيمة، وأن الخلاف لا يعني الخيانة، وأن الوطن لا يُدار كدكانٍ في سوق باب الزاوية.

وحين نُشفى من هذا الجشع، سنكتشف أن فلسطين كانت دائمًا هنا…
فقط كانت تنتظر أن يقلّ عدد المتحدثين باسمها ليعلو صوتها هي.

وحتى ذلك الحين، سيظل بعض القادة يظنون أن التاريخ صفحة فيسبوك، وأن الوطنية تُقاس بعدد اللايكات، وأن الخلاف عبادة.

لكن ما علينا — ابتسموا قليلًا، فالنكتة لم تنتهِ بعد،
والفصل القادم من “مسرحية الجشع العظيم” ما زال قيد الإخراج،
من بطولة الوجوه ذاتها… والضحايا ذاتهم!

م. غسان جابر – مهندس و سياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية و البلدة القديمة في الخليل – نائب رئيس اللجنة التحضيرية لمنبر صحفيون من أجل فلسطين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى